5-9-2016 الواحدة ظهراً "أبويا مات .. مجدى مات"
قالت كلماتها بصوت مُحشرج لا تشوبة أى دموع، هرولت إلى المشفى تاركة
مشاعرها فى المنزل ، ظلت مرتدية ملابسها المُلونة مكحلة العينين و إرتدت قناعاً جامداً
لا تعلم مصدرة لكنها أجادت إستخدامه فى مواجهه نفاق مصطنع من الجميع
قبل سبعة وثلاثون يوماً قامت إدارة المشفى بحجزنا سوياً على أمل أن يستمد
كلانا الحياة من الآخر، سعدتُ وكأن القدر أراد أن يُصالحنا و يُنهى فُراق أرواحنا الذى
دام لأعوام كثيرة، يوم كامل مر ببطء شديد ليقرأ فيها سبعه أجزاء كاملة من القرآن، وليلة
جمعتنا فى غرفة واحدة لأول مرة منذ أن كنت طفلة لم نتحدث فيها كثيراً، كان السكون
والترقُب فيها سيد الموقف، ونغزات الإبر وموقف ضاحك هما كل ما تحدثنا عنه
قبل سته وثلاثون يوماً إستعد كلانا وإتبعنا الإجراءات بصرامة شديدة،
قاموا بتعقيمنا بمواد مُطهرة وإرتدينا ما يرتديه الأناس قبل دخول غرف العمليات
الجراحية الكبرى، سبقنى وأخذوه دون أن أودعه سوى بقبلة واحده على جبينه، قبلة
عاجلة لم يُريدها هو بقدر ما أراد الذهاب فى عجلة من أمره الى غرفة العمليات
اللعينة، ظللت أنتظر دورى ومرت الدقائق بطئية لتُكمل ثلاث ساعات كاملة من الإنتظار
القلِق، وجاء خبر عدم استكمال ما بدأ، كانت الكلمات الظاهره "مفيش عملية، يلا
هنخرج" أما باطنها "إستعدى لوفاته قريباً" إنه القدر ينظر إلىً
عابثاً قائلاً لن تنولى أمنياتك أبداً
خمسة وثلاثون يوماً مرت فى المشفي، كنت أعلم فيها أنها مجرد أيام
وينتهى الآمر، فكرَت كيف ستكون الحياة بدون سند فى مجتمع لا يعتمد سنداً للمرأة
غير أبيها وإن كان أباً على ورق، وإن كان ضعيفاً أو مريضاً أو مسافراً، كيف سأصطدم
بكل ما أكره وأمنع ما يضر إن لم أجد سنداً لى حين أخطئ، كم سيزيد بؤس روحى دون أب،
كم سنسير فى الحياة وحدنا، متى سينتهى هذا العبث ويخيب ظنى
أربعة وثلاثون يوماً بكيت فيها كما لم أبكى من قبل، رق قلبي كما لو
أنه لم يسبق وأن دق، ظللت ألتمس كلماتى كما لو كنت أنطق بكلماتى الآخيرة، سخرت
نفسي وعملى وضبطت مواقيتي لرؤيتة كل يوم
ثلاثة وثلاثون يوما مارست فيها نظام غذائي شديد للحفاظ على جسدى و
ضبط مؤشراتى الفسيولوجية على أمل أن نعود لغرفة العمليات يوماً ما، مارست الرياضة
يومياً لأحافظ على لياقتى حين أحتاجها لأشفي سريعاً وأعتنى به، إقتربت ممن أحب كما
لو لم يتذوق قلبي الحب يوماً
إثنين وثلاثون يوماً قال فيها أحبك ألالاف المرات للكثير ممن قاموا
بزيارته، لم أسمعها منه سوى مرة أو إثنين، أكان يُحبنى حق حبي له! لماذا يمنعنا
القدر عن إظهار الحب بقدر ما يُجبرنا على إظهار الكراهية للجميع؟
ثلاثون يوما حاولت استجماع قواى النفسية والجسدية ليمر هذا اليوم الموعود
بسلام
قبل ثلاثة أيام كانت إفاقته الجيدة قبل غيبوبته الأخيرة، إجتمع كل
أحبابه ليلتها على غير المعتاد، لقد مات أبي دون أن أراه فى أخر يوم أفاق فيه ، كنت
فى أكثر أيامى إكتئاباً، أكانت هى الأقدار اللعينة؟
قبل يومين لم يتخيل أحدهم أنها النهاية، ظنوا جميعاً أن إفاقته بدايه
لأيام جديدة مليئة بالخير، كنت أعلم كما كان يعلم أنها النهاية لا محاله
قبل يوم وعيناه سارحتان فى ملكوت لا علم لنا به، جلست بجواره وأمسكت
بيده، تحدثت معه وأمسكت بدموعى كما يمسك المرء بأسد هارب فى غابة كبيرة، أخبرته
أنى أعلم ما يخفى عن الكثيرين، أخبرته أنى لن أنسي ما ألمنى يوماً لكنى سأحاول، طلبت
منه أن يسامحنى وأن يُرسل لى ملائكته الطاهره إن كانوا حوله حقاً
يوم الإثنين اللعين، حين أغلقت عيناه خِفت أن أراه، لم أدخل غرفته، لا أعلم لماذا
لم بُجبرونى على رؤياه! ماذا منعنى رغم إرادتى الشديدة لتقبيله على جبينه كما يفعل
الآبناء مع أبائهم دوماً، هل تمنع ملائكته الطيبة الأشرار أمثالى!
مات أبي ظهراً .. غسل وكفن عصراً ، قامت صلاه جنازة وتم الدفن بعد
صلاه المغرب، لم أمر بالمقابر فى حياتى سوى مرة واحده معه، أشار لى وقتها أن هذه
مقبرته و هذه مقبرتى اللذان يندفن فيهما، لم تفارقنى إبتسامته، كان النعش طائراً
كما يذكرون فى روايات الأجداد التى لا يُصدقها العقل، لم أرى يوماُ جنازة بهذا
الشكل المُرعب الرائع، لم أشعر بالخوف أو الألم
أشعر بالذنب كثيراً، لم أراه ليلته الآخيره، لم أقبله، لم أساعده
ليستكمل حياته،،، الشعور بالذنب لا يستمر كثيراَ ... أعوام كثيرة لم أشعر فيها
بوجود أبي، أيام كثيرة عانيت فيها لأسباب كثيرة، لقد غفر الله له بأن وهب الإنسان
نعمة النسيان فـ مات دون أعداء أو مشكلات .. سامحنى
يا أبي.. لم أكتفى بك يوماً وقد تمنيت كثيراً ألا أفارقك لحظة..
اليوم الاول مر ببطء وكأن عاما كاملا قد مر، البكاء والنحيب المصطنع
فى كل مكان، الجميع حزين أو يُظهِر حزناً على رجل مشهود له بكل الخير والصلاح،
مفاهيم كثيرة أعادت ترتيب ذاتها فى عقلى الصغير، كيف يبكون أمام الآخرين ويتهامسون
ضاحيكن فيما بينهم، لما كل هذا النفاق المبالغ فيه، لا أشعر بشيئ حقيقي حولى
ثلاث أيام مضت تليقت العزاء من الكثير من المنافقين والآفاقين والمُستغلين
ومدعين الواجب، تلقيت عزاءات من أناس مُقربون منه أو من العائلة وأخرون يرون أنهم
مقربون منى، لم أشعر بقرابة أحد، شعرت وكأن العالم كله ضدى، جميعهم بأقنعة سوداء
كاذبة، سيطرت علىً فكرة أن لا أحد صادق، أشخاص معدودون هم من تأثرت بوجودهم،
وكثيرون تمنيت لو سمعت كلمه عزاء واحدة منهم، أصدقاء لم أرى منهم ما يُثبت ذلك
وأقارب لم يصدقوا فى مشاعرهم...
خمسة أيام مرت .. أول أيام عيد الأضحى، جنازة جديدة بدأت اليوم ، لم
يستطع عقلى إدراك ما يحدث، لا يشعر قلبي بشئ، أنظر للجميع فى صمت دون جدوى، أتأمل
الأحداث محاولة إستيعابها دون فائدة ... سرت فى المقابر وحدى للمرة الأولى، قرأت
الفاتحة للمرة الأولى، لم أشعر بشيئ وكأن شعورى أصبح متأخراً ألف عام ، عقلي لازال
رافضاً وقلبي متعلقاً ونفسي مندهشه ...
ثلاثون
يوماً مضت على وفاته أحاول جاهده جعلها أياماً إعتيادية .. لكنى اليوم حزينة
مشتاقة، يعتصر الألم قلبي، إحتاج عقلي شهراً كاملاً لإستيعاب الآمر ولازلت لا
أصدق، أشعر وكأنه فى سفر كالمعتاد لا أكثر .. أنا حزينة بما يكفى لقبول إحتضان
العالم ..
لقد وقعت
فى فخ النفاق، نفاق عكسي، أظهرت جموداً مبالغ فيه فور وفاته على غير مافى قلبي، وضعفاً
مبالغ فيه مغلف بجمود وخروج عن المألوف بأفعال غريبة الآن .. أشعر وأنى قد جُننت ..
ها أنا أتحدث عنه دون إذن، أتحدث وأنا لا أميل للحديث، أتحدث و أعلم أنك لن تسمع،
أرسل لك الرسائل عبر المدونه كما كنت أفعل دوماً .. أنا حزينة يا أبي
لقد
جُننت، أقوم بأفعال غريبة وأقوال بائسة، لا أجد من يملأ فراغ قلبي وروحى، لم أكُ
أعلم أنك مهم لهذه الدرجة فى حياتى البائسة، تمنيت لو كان حضنك أقرب لى من كل
الأحضان المُستغلة الأخرى، تمنيت لو كنت أقرب أثناء حياتك لأستطيع اظهار الحزن
عليك بما يكفى حزنى بعد وفاتك، تمنيت لو نسيت حقاً ما فعلته وما مررت به بسببك وبدونك،
لا أعلم ماذا أفعل فى نفسي الآن هل أعاقبها أم أعاديها هل أنا حزينة أم فقدت موازين
عقلى البائس .. لقد جُننت، و سيبقي الحزن بداخلى، ليس حزناً على وفاتك، بل حزنا
على ذاتى التى لم تستمد قوتها منك كما أرادت، لقد جُننت وأصبحت غريبة الأطوار،
وأصبح مطلوباً منى إعادة ترتيب حياتى وأفكارى ومعتقداتى الغريبة و الغير متكاملة..
وحدى كالمعتاد