في أغلب مراحل التاريخ الإنساني كانت الأفكار الحرة بكل مستوياتها واتجاهاتها وتموجاتها تتقصّد المواجهة مع الظروف المحيطة بها، لا تستسلم لها، ولا تحاول مجاراتها نفاقاً أو ترضيةً أو مهادنة أو تراجعاً، بل تتشابك معها في معاركَ قد تطول وقد تقصر في بعض الأحيان، لأنها أفكار معنيٌة في الأساس بخلق حالةٍ أو مستوى إنساني لا يخضع للظروف المحيطة سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم دينية أم سياسية، وتحتفظ الأفكار الحرة الشجاعة ببسالتها النقدية وبومضاتها التفكيرية وبقدارتها التفكيكية في مواجهة الظروف وصناعة الحياة المبتكرة، لذا فهي ترفض الانزواء والتقوقع والتراجع، لأنها باعثة على المواجهة وخالقة لظروفها ودافعة للتفكير والتساؤل والإبداع، ولأنها تتجه مباشرةً إلى العقل، تستثيره وتحفّزه وتفجّر فيه منابت السؤال والتفكير، وتمنحه هوية إنسانية يتجلى بها حضوراً على مسرح الحياة، ويرتفع بها على أية هوية أخرى سواء أكانت دينية أم عرقية..
إنها الأفكار الشجاعة الحرة التي تسعى إلى فعل التفوق على ما عداها من أفكار أخرى، لأنها تؤمن إنه حينما تستطيع أن تتفوق على ما سواها، فإنها بذلك تستطيع أن تنتصر في معاركها ومواجهاتها مع الظروف والواقع السائد والتخلف، ولا يعني هذا السعي نحو التفوق والألق بالنسبة إليها سوى تأكيد على المضي قدماً في مواجهاتها الفكرية مع الظروف، لأن الأفكار الشجاعة، الحرة، الجريئة، الملهمة للعقل والتفكير والتساؤل، لا تبحث عن شروط المواءمة والتكيف مع الظروف، بل هي تتناقض معها، وتخلق من هذا التناقض ظروفاً جديدة ومستويات متجددة وطرقاً مبتكرة في مواجهة الواقع، وتخلق منه أيضاً مسارات أكثر فاعلية وإيجابية، بينما الأفكار المتخلفة المستسلمة تبحث عن انتصارها في الظروف المتاحة والسائدة والمهيمنة، وربما في بعض الأحيان قد تتناقض مع ظروفها، ولكنها تسعى إلى التكيف معها ومهادنتها والانخراط في متاهاتها وتبنيها لأنها لا تملك البديل..
لذلك فالإنسان عموماً، وفي حياته التي يمارسها عملياً وتطبيقياً قد يتناقض كثيراً مع قناعاته الدينية والمذهبية والعقائدية، ولكنه لا يستثمر هذا التناقض في المواجهة والتصادم معها، ومحاولة تخطيها وتجاوزها والانتصار عليها، لأنه يخشى أن يفقد ذاته وتاريخه وهويته، ولأنه لا يعرف الطريق إلى خلق البديل الذي يمنح ذاته حالة من الانسجام والاتزان والتثبت، ويزيل عنها بالتالي حالة التشظي والتناقض والقلق والترجرج، وعليهِ فالإنسان في النهاية هو المسؤول عن خلق مستوياته التفكيرية ليدخل بها في مواجهة مع الظروف المحيطة، كما إنه المسؤول أيضاً عن انحدار مستوياته، لأن الإنسان حينما يواجه الظروف ويبدع في ذلك ويجترح صيغاً مناسبة له، فإنه يريد بذلك أن يخلق ظروفاً دافعة وداعمة وملهمة لابداعاته وتألقاته وتوثباته الثقافية والنفسانية يرفع بها من مستوياته في التفكير والادراك والتحديق والإنجاز، بينما مَن يبحث عن اسلوب يوفر له طرق التكيف والتلاؤم مع الظروف، فإنه بذلك لا يعكس سوى مكونات وحالات ومستويات الظروف المحيطة به، والفرق هنا بين هذا الإنسان وذاك، هو الفرق بين مَن يجد في الظروف واقعاً مسلّما به يدفعه للخضوع له والتكيف معه استسلاماً وخوفاً وتقديساً أيضاً، وبين من يجد في الظروف واقعاً يجب مواجهته والتغلب عليه والعمل على استبداله..
وهناك مَن يؤمن بيقينهِ الديني الثابت والمتأصل فيه، بأن الظروف قدره المحتوم ولا يجب تغييرها وتخطيها، لأنه يراها من صُنع السماء وقدراً مقدساً يحمل في الوقت نفسه قداسة السماء ولا يجوز الاعتراض عليه، ويعتقد بأن إيمانه بخالقهِ، يلزمهُ بالضرورة الإيمان بأن الظروف قدره ويلزمه بعدم تغييرها، وعليهِ تذهب التفسيرات اللاهوتية الدينية إلى إيهام الفرد بأن ما يحدث من حوله والظروف المحيطة به قدراً محتوماً ومكتوباً، ويجب أن يؤمن به إيماناً راسخاً، لأنه يعكس إرادة خالقه، وتقديسه لخالقه والإيمان به يُحتّم عليه تالياً إيمانه بالظروف وتقديسها، وتذهب هذه التفسيرات دائماً إلى عملية الخلط بين اعتقاد الإنسان بخالقه، وبين ما يحدث له في الحياة، وهذا الخلط أنتجَ تفكيراً عاجزاً لدى الإنسان، أصبح ينظر إلى الظروف وإلى كل ما يحدث له، ومن حوله، بأن سببه تدخل الغيب والقدر والماورائيات..
ولم تك يوماً الأفكار الحرة القوية عاجزة عن التعاطي الخلاق مع الحياة، لأنها أفكار معنية بانتاج الحياة التي تليق بالإنسان من حيث كونه الصانع المباشر لها، ومن حيث كونه المستفيد من تطورها وألقها وجماليتها، ولذلك لا تتردد هذه الأفكار في الدفع بالإنسان دائماً نحو مواجهة الظروف التي تسلب منه إرادته وحريته وكينونته، وتدفع به أيضاً إلى مواجهة ذاته التاريخية والتراثية والدينية والمذهبية، ينزع منها حالة الانشداد النفساني والثقافي التلقائي لماضوياتها التراثية المعيقة للتفكير والانتاج والتقدم والتعايش، إنها الأفكار التي تضع الإنسان في مواجهة الذات التراجعية والذات المسكونة بثقافة القدريات والغيبيات، ولذلك فإن الأفكار الحرة والجريئة والمبدعة تتوالد في مناخات التحرر من فروضات الفكر الديني اللاهوتي، الذي يقوم في مجملهِ على تكريس مبدأ العبودية في الإنسان، العبودية التي تعني في مطلق حالاتها ومستوياتها وصورها تبعية الإنسان الكاملة لظروفه وواقعه وموروثاته..
وإذا كانت الأفكار المتخلفة الانغلاقية لا تستطيع أن تصنع اختياراتها، لأنها في الأساس نتاج التكرار التلقيني واليقيني للخيار أو الاختيار الذي وجدت نفسها فيه منذ زمن بعيد، ولا تملك القدرة على الخروج منه أو حتى محاولة امتلاك الحرية في تغييره، فإن الأفكار الحرة المفعمة بالموهبة والجرأة والاقدام والتمرد صانعة حقيقية لاختياراتها، لأنها في الأساس حرة، والحرية في تصورها الأصيل تعني الإرادة الحرة في اجتراح ما تريده من اختيارات تتناسب مع طموحها واندفاعاتها ونظرتها للحياة، وتتناسب مع شخصيتها النقدية والتفكّرية وحتى مع جنونها وتمردها، إنها إرادتها الحرة التي تمنحها موهبة المواجهة مع الظروف والواقع السائد، وتجعلها ترفض الأفكار والظروف التي تقمع فيها روح المجازفة والابتكار، وتجعلها تملك أيضاً أن ترفض الأفكار والظروف التي تسلب منها رغبتها في العطاء والتغيير والتفرد..
وجوهر الأفكار الحرة، القوية، في نتائجها الداعمة للحياة والإنسان، لأنها معنية بابتكار الحياة الملونة والذكية والمبدعة والمنفتحة والملهمة، ولأنها ملهمة لنزعة الإنسان الدائمة نحو الإبداع والتألق والمغامرة، وفي أغلب مراحل التاريخ الإنساني استطاعت الأفكار الحرة أن تثبت إنها قادرة على الانتاج والابتكار والإبداع، ألم تحقق أفكار الفلاسفة الأغريق مثلاً، نتائج رائعة في بلورة (الفلسفة الإنسانية) التي دعت إلى قداسة قيم الإنسان الفردية، من حيث كونها الأساس الذي قامت عليها وانطلقت منها مجمل الإبداعات البشرية في حقول المعرفة والفن والأدب، ألم تكن هذه الأفكار الحرة، خلاقة في نتائجها على تطور الحياة والإنسان، وكان أن استدعت واستحضرت منابر التنوير في أوروبا تلك الأفكار وركزت عليها لمواجهة اللاهوت الديني الكنسي، والخروج بها إلى رحاب الحداثة والتغيير، انتصاراً لقيم الإنسان الفردية في الحرية والاستقلالية والاختيار، وانتصاراً للحياة الخالية من فكر الوصاية والهيمنة والاستبداد، وألم تُحدث بالتالي أفكار الفلاسفة التنويريين تطوراً هائلاً في تقدم الفكر الإنساني، وحققت بذلك نتائجَ باهرة في ميادين الفكر والنقد والفن والتفكير والنظريات، وعظمة الأفكار تقاس بما تستطيع أن تقدمه، وبما قدمته للإنسانية والحياة من ابداع وتطور وتغيير وجمال وحضارة وموهبة..
والأفكار الحرة بالضرورة تستدعي ظروفاً حرة، وتستلهم منها الرؤى الرائعة لصناعة الحياة البهيجة، الجميلة والمبدعة، إنها الأفكار التي لا تحشر الحياة في ثقافة الموت والقبور والعذابات والأهوال، إنها صانعة للبهجة والفرح والحب والفن البديع، ونابذة بالمقابل لثقافة الموت والكآبة والخوف والتردد والعبودية، لأن مَن يعش بين نعيق تلك الثقافات كيف له أن يرى الحياة مسرحاً للإبداع والجمال والتألق والتمرد والجنون الملهم، وإنها الأفكار التي ترى في الحياة فضاءً يجب أن يزدحم بالألوان الباعثة على الجمال والبهجة والموهبة والذكاء، وإنها الأفكار التي تمنح الحياة فتنة المنجز الإنساني الجمالي المتحرر من ثقافة الموت والكآبة والخوف، وإنها الأفكار التي لا ترى في المنابر الضاجة بصراخ الكآبة والخراب والموت والفناء والوعيد، سوى تخريب وتشويه لجمال الحياة البهية، وتطاول صارخ على حق الإنسان في اختيار ظروفه الحرة والنظيفة..
وهل تستطيع الأفكار التي تشرّع المحرمات والممنوعات، وتجعل الإنسان مسكوناً على الدوام بعقدة الابتعاد والتخلص والتطهّر من الآثام، وفقاً لتعاليمها وتوجيهاتها وفروضاتها وتحذيراتها، وتجعله دائماً في حالةٍ من تأثيم الذات، هل تستطيع أن تبني حياةً وظروفاً نابضة بدفق التألق والإبداع والحرية .؟ وهل تستطيع أن تبني إنساناً يهوى المجازفة والمغامرة والتغيير والاقتحام والتمرد، ويتفوق بالرفض والتحديق والنقد والمساءلة .؟ بالطبع لا، لأن هذه الأفكار هادمة للرغبة والإرادة الإنسانية، ورافضة للعقل والتفكير، وقامعة للذاتية والحرية والتحرر والاستقلالية، إنها الأفكار التي دائماً وأبداً تتعقب الإنسان بالمحرمات والممنوعات، وهي الأفكار ذاتها التي تجد في المحرمات والممنوعات والتأثيمات والتعنيفات والتوبيخات ترسيخاً لثقافة الكآبة والموت والعبودية، وتأكيداً على ثقافة الوهم والخرافة، ودعوة للاستسلام للظروف والواقع وثقافة القدريات والغيبيات، وتحسب ذلك كله ابتلاء واختبار للإنسان، ابتلاء واختبار يتجرّع بهما الكآبة والموت والدمار، ويستزيد بهما استسلاماً وخنوعاً لكل تلك الثقافات الهالكة، بينما الأفكار الحرة، الصانعة لظروفها الحرة، تستنهض في الإنسان نزعة الذات التفكّرية والاستقلالية والإبداعية والتساؤلية، وتستدعي فيه الرغبة والإرادة والاقتحام، وتبعث فيه روح المواجهة والحياة، واحتمالات الخلق والتغيير..
بقلم
محمود كرم، كاتب كويتي